الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
تنبيه: خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه كلماته في الجانبين فيقول: قل أشهد بالله إلخ؛ لأنّ اللعان يمين واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلب فيه معنى الشهادة، فهي لا تؤدى عنده إلا بإذنه وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحدّ الذي وجب عليها بلعان الزوج كما علم مما مرّ، ويلاعن أخرس بإشارة مفهمة أو كتابة ويكرر كلمة الشهادة أربعًا أو يكتبها مرّة ويشير إليها أربعًا، ويصح اللعان بالعجمية، وإن عرف العربية ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس فيؤثر الفصل الطويل ولا يشترط الولاء بين لعاني الزوجين، ولو أبدل لفظ شهادة بحلف ونحوه أو لفظ غضب بلعن أو عكسه أو ذكره قبل تمام الشهادة لم يصح ذلك ويصح أن يتلاعنا قائمين وإن يغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر الجمعة فيؤخر إليه إن لم يكن طلب أكيد وإلا فبعد عصر أي يوم كان وبمكان عند أشرف بلد اللعان فبمكة بين الحجر الأسود والمقام، وهو المسمى بالحطيم، والمدينة على المنبر، وبيت المقدس عند الصخرة، وغيرها على منبر الجامع، وتلاعن حائض بباب المسجد وذمي في بيعة للنصارى، وكنيسة لليهود وبيت نار لمجوس؛ لأنهم يعظمونها لا بيت أصنام وثني؛ لأنه لا حرمة له.وقرأ حفص: والخامسة الأخيرة بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع بتخفيف النون ساكنة وكسر الضاد ورفع الهاء من الاسم الجليل والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب الضاد وخفض الهاء. ولما حرّم سبحانه وتعالى بهذه الجمل الأعراض والأنساب فصان بذلك الدين والأموال، علم أن التقدير فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين لما فعل بكم ذلك ولا فضح المذنبين وأظهر سرائر المستخفين، ففسد النظام فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله تعالى: {ولولا فضل الله} أي: بما له من الكرم والاتصاف بصفات الكمال {عليكم ورحمته} أي: بكم بالستر في ذلك {وإن الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلمًا {تواب} بقبوله التوبة في ذلك وغير ذلك {حكيم} يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور لفضح كل عاصٍ، ولم يوجب أربعة شهداء سترًا لكم، الحكم الخامس: قصة الإفك المذكورة في قوله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك} أي: أسوأ الكذب سمي إفكًا لكونه مصروفًا عن الحق من قولهم: أفك الشيء إذا صرفه عن جهته، وذلك أن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أفضائه.فإن قيل: لم ترك تسميتها؟أجيب: بأنه تركه تنزيهًا لها عن هذا القال وإبعادًا لصون جانبها العلي عن هذا المراد، وقوله تعالى: {عصبة} خبر إنّ أي: جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون وكذا العصابة وقوله تعالى: {منكم} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن يعد عندكم في عداد المسلمين يريد عبد الله بن أبيّ وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم، وقوله تعالى: {لا تحسبوه شرًّا لكم} مستأنف أي: لا تنشأ عنه فتنة ولا يصدقه أحد {بل هو خير لكم} لاكتسابكم به الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاءً مبينًا ومحنة ظاهرة، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثمان عشرة آية في براءتكم وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيرًا كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وتبرئة لأم المؤمنين رضوان الله تعالى عليها وتطهير لأهل البيت وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به، فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمّلها، ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له علل ذلك بقوله تعالى: {لكل امرىء منهم} أي: الآفكين {ما اكتسب} أي: بخوضه فيه {من الإثم} الموجب لشقائه {والذي تولى كبره} أي: معظمه {منهم} أي: من الخائضين وهو ابن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو وحسان ومسطح فإنهما تابعاه بالتصريح به والذي بمعنى الذين على هذا {له عذاب عظيم} في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبيّ مطرودًا مشهورًا بالنفاق وحسان أعمى أشل اليدين ومسطح مكفوف البصر.تنبيه: قصة الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرهما شهيرة جدًا ولكن نذكر منها طرفًا تبركًا بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وبذكر السيدة عائشة وأبويها رضي الله تعالى عنهم، فنقول: عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؛ قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين فأذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري وإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت: وأقبل الرهط الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلن ولم يغشهم اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما سار الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيب، فيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن معطل السهمي ثم الذكواني رضي الله تعالى عنه قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرًا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم، ثم ينصرف فذلك الذي يريبني فيه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأمّ مسطح قبل المناصع، وكان متبرزنًا وكنا لا نخرج إلا ليلًا وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأولى في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فأقبلت أنا وأم مسطح حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهدًا بدرًا، فقالت: يا هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت: وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ، قالت: وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما؛ قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبويّ فقلت لأمي: يا أماه ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فوالله ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها؛ قالت: فقلت سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا، قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي؛ قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودِّ، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيرًا، وأما عليّ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، ولم يدخل على أهلي إلا معي؛ قالت: فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج؛ قالت: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن حملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن تقتله، فقام أسيد بن حضير ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه كأنك منافق تجادل عن المنافقين قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت؛ قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى أني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت: فبينما نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس؛ قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء؛ قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه؛ قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى لا أحس منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال، فقال: إني والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرًا: والله لقد علمت ما سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقوني فوالله لا أجد لي ولا لكم مثلًا إلا ما قال العبد الصالح أبو يوسف ولم أذكر اسمه حين قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم حينئذٍ أني بريئة، والله مبرئي ببراءتي؛ ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيًا يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله تعالى على نبيه فأخذه ما كان يأخذه عند الوحي من البرحاء حتى أنه لا ينحدر منه العرق مثل الجمان في اليوم الشاتي من ثقل الذي أنزل عليه فسجي بثوب، فوالله ما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقًا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس، فلما سرى عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة قد برأك الله فكنت أشد ما كنت غضبًا، فقال لي أبواي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي؛ لقد سمعتموه فما أنكرتموه، ولا غيرتموه، وأنزل الله تعالى: {إن الذين جاؤوا} العشر آيات كلها، فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} إلى قوله: {غفور رحيم} فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح التي كان ينفقها عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا؛ قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت حجش عن أمري فقال لزينب: ما علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرًا؛ قالت عائشة: وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع؛ قالت عائشة: والله إنّ الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله تعالى؛ قالت: ولما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن وضرب عبد الله بن أبيّ مسطحًا وحسان وحمنة الحدّ.
|